د. إيمان ضاهر تكتب.. رحلة في بحار الرواية العظيمة
مقالتي نص جميل لتحية الحزن البهيج للكاتب الروائي الراحل ميلان كونديرا، تتضمن روح الرواية وكأنها ثمرة الذهول البشري.
رحل عن عالمنا في ١٢ يوليو تاركًا إرثًا تذكاريًا عالميًا، إنتاج أدبي ضخمًا ذا طابع استثنائي في الثراء الأدبي وفريدا في فن الرواية.
ترجمت أعماله إلى ٤٠ لغة. لم يرغب الكاتب الكبير ميلان كانديرا في كتابة سيرة ذاتية، فالروائي يهدم منزل حياته ليبني بالطوب منزلًا آخر، وأليس هو منزل روايته التي عاش لأجلها وليكتبها طيلة عمره؟
رواياته نزهات أدبية في عالم الرواية وروحها، اليست كل رواية لغز من العالم؟ أليست لتغذية المعرفة العميقة القادرة على فهم الإنسان؟
استحوذ قلم كونديرا المبدع على إعجاب قراء العالم، ويقال علينا أن نقرأ رواياته على الأقل مرة واحدة في حياتنا؟
فكيف حدد الكاتب ميثاق الرواية؟
الرواية لا تفحص الواقع بل الوجود والوجود، ليس ما حدث إنما هو الاحتمالات البشرية وكل ما يمكن أن يصبح عليه الإنسان وكل ما هو قادر عليه.. والروائي يكتشف الوجود. الرواية، تأمل في الوجود الذي نراه من خلال شخصيات خيالية.
إن تأليف رواية يرادف وضع مساحات
عاطفية مختلفة جنبا الى جنب، ذلك هو المنهج الأكثر دقة للروائي. للرواية عدو لدود، السرعة، فالقراءة البطيئة التزام مقدس ويجب أن يظل القارئ تحت تأثير تعويذة صفحة أو فقرة أو جملة.
روايات الروائي ولدت من الشغف الشخصي، ولا يمكن أن تبدأ إلا بقطع الحبل السري بحياته، وينطلق التساؤل الدائم لا عن حياته إنما عن مغزى الحياة عينها.
فأين يكمن الحق المعنوي للروائي؟
ويكمن هذا الحق في إعادة صياغة روايته للعالم، فالروايات العظيمة غالبًا ما تكون أذكى قليلًا من مؤلفيها. وكيف تكتب الرواية؟ في عزلة منطقة غير مستكشفة مليئة بالوديان حيث تتوقف التأملات البشرية وتستريح لتصل الى قمم حيث يتفوق التامل، كما يقول الكاتب العالمي جوليان جرين. عندما تكتب الرواية تكون شجاعا في عزلتك "نحن أحرار في عزلتنا، كما يقول الفيلسوف الكبير شوبنهاور: نحن بدون شهود، مع الذات، بين الحروف، مع الله عز وجل، ويضيف: أليست العزلة نصيب العقول الفائقة لتوصيل الخيوط والاستعداد لمواجهة جديدة. غالبًا ما كانت الرواية لكاتبنا الرائع سعي طويل للتعريفات العابرة.
أليست ذا مغزى ميتافيزيقي؟
قام الروائي التشيكي منذ زمن بتحليله بمنظار التطور السري للعقليات الموروثة من سرفانتس الرواية الحقيقية التي تستند بشكل أساسي إلى حكمة الشك والنسبية المهددة من قبل قوى للعالم الحديث. يهدف فن الرواية كما قلت إلى استكشاف الوجود ويفحصه ميلان كونديرا في ضوء أزمة الوعي الأوروبي التي شخصها هوسرل وهايدجر. بأن التقدم العلمي والمنطق العقلاني للتخصص سيجعل الإنسان من الآن فصاعدًا غير قادر على التفكير في العالم بأسره؛ لكن الرواية الأوروبية العظيمة حملت في الواقع منذ سرفانتس شعلة استكشاف الوجود.
وهكذا في كل فترة من التاريخ الأدبي يدرس فن الرواية بشكل أساسي جانبًا معينًا من الوجود. يعترف كونديرا أن الرواية هي "الشكل العظيم للنثر؛ حيث يقوم المؤلف، من خلال الشخصيات التجريبية، بفحص بعض موضوعات الوجود.
فن الرواية بالتفصيل اكتشاف جوانب مختلفة على مر القرون: كتب معاصرو سرفانتس عن المغامرة ؛ الإنجليزي صموئيل ريتشاردسون (القرن الثامن عشر ) عن حياة المشاعر ؛ الكاتب الكبير بلزاك وجذور الفرد في احداث التاريخ.
يصور فلوبير الحياة اليومية والعظيم الروسي تولستوي اللا عقلاني. بروز الماضي، وجيمس جويس الحاضر؛ يشرح توماس مان تأثير الأساطير القديمة على الفرد الحديث.
لذا فإن الغرض من الرواية هو شكل من أشكال المعرفة، وهو السعي وراء الذات.
بالنسبة لكونديرا هذه الفرضية تجسد الجزء غير المكتمل من الأعمال العظيمة، لأن النقص الرومانسي لن يكون إلا انعكاسًا للنقص الأساسي للهوية.
أليست هذه الحكمة العميقة للرواية؟
دافع الكاتب الروائي عن الحكمة الضمنية لفن الرواية وروحها حيث راى في تطور موضوعات الرواية العبور من اللا نهاية للعالم الخارجي إلى اللا نهائية لداخلية الفرد وروحه، كما تتجلى في مدام بوفاري رائعة الكاتب فلوبير.
وتشهد روايات كافكا على حقيقة أن استكشاف هذه اللا نهاية الجديدة قد تعطلت بسبب قوة المجتمع. إذا كان للصيغة بعدًا مختلفا، فذلك لأنها ستعبر عن تحور المقولات التي يفكربها الوجود. في الواقع، عالم الشك من الحقائق النسبية - كان هذا هو العالم الذي واجهه سرفانتس بالفعل. بالنسبة لكانديرا تخفي الرواية حكمة تدعونا إلى افتراض النسبية الجوهرية للأشياء البشرية والابتعاد عن المانوية المتأصلة في طبيعة الأفراد، وهذا هو السبب في أن روح الرواية تتعارض بشكل أساسي مع جميع العقائد التي تراوغ في مواجهة الحقيقة لأن على الروائي أن يستمع فقط إلى الحكمة الشخصية الخارقة لشكلها الأدبي حتى تتفوق عليه روايته في الذكاء.
لذلك يجب أن يختفي وراء عمله، لأن الحقيقة التي هو مبشر بها هي بدون مؤلف. "أحلم، يعترف كونديرا بعالم حيث واجب الكتاب بموجب القانون الحفاظ على سرية هوياتهم واستخدام اسماء مستعارة" هل مستقبل الشكل لفن الرواية أمر مؤكد؟
تخيل كونديرا أنه إذا تم تأسيسه من قبل سرفانتس، فمن الممكن أن يموت بشكل مع نهاية العصر الحديث. الرواية ليست أبدية ولا عالمية، خاصة أن روحها لا تتوافق مع تجانس كل المجتمعات ايديولوجيا حيث كان الإبداع الروائي متواضعًا. يبدو ايضا انه يحتضر في المجتمعات الغربية الحديثة، لذا يتم إعادة إنتاج الشكل الأدبي هناك دون أفكار جديدة.
إعادة الكتابة كروح العصر. في يوم من الأيام ستتم إعادة كتابة كل الثقافات الماضية بالكامل ونسيانها تمامًا بعد إعادة كتابتها". فن الرواية وهل استنفدت إمكانات الرواية إذن؟ يؤكد كونديرا أنه على العكس من ذلك فإن العالم لم يعد متكيفًا مع الشكل. الرواية للمفارقة أكثر من ضرورية لأن مجال التخوف من الوجود مستمر في الانكماش وهذا بطريقة غير مسبوقة في المجتمعات المعاصرة. كاتب يشير بإصبع الاتهام الى وسائل الإعلام، من خلال الاعتماد على الكليشيهات والتبسيط والإجماع والتي لا تغذي روح العصر الحديث على عكس روح الرواية. وحكمة سرفانتس القديمة تبدو الآن مرهقة للغاية. ومع ذلك تأمل كانديرا هذه الحكمة على أنها مفتاح النضج الفردي للإنسان الحديث، والذي يتمثل في عدم قبول فقدان يقين الحقيقة.
وهل توجد عظمة روائية؛ حيث لا توجد حقيقة أدبية إنسانية؟
أليس المفتاح الأول للعظمة هو أن تكون ما تبدو عليه في الواقع؟ كما يؤكد لنا الفيلسوف سقراط. فمن كان ميلان كانديرا؟
موهبة تفجرت في عصر تعذبه الاضطرابات السياسية والصراعات الأيديولوجية لكن شغفه بالكلمات أنقذه. ميلان كانديرا، كان إبداعا متميزًا لا يتكرر؛ حيث جمع بتناغم بناء بطولي بين الفكر والعاطفة والفلسفة والشعر.
كشفت روح رواياته عبقريته والجهد الصميم للغوص في أعماق الإنسان المعقدة وعلاقته مع أفراد المجتمع والتساؤلات الوجودية حول الحرية والحقيقة.
ابتكر آفاقا جديدة لسرد الروايات تحدى التقليد لولادة كون جديد من الرواية. ومن أجمل ما سطره خياله المبدع رواية "خفة الكينونة التي لا تطاق" رواية مبدعة مثلت وترجمت إلى ٤٠ لغة تحليل لمعضلات الحياة من خلال المصائر المتشابكة للحرية والقدر والحب لأربعة أشخاص.
"الحياة في مكان آخر" تروي عالم الشباب الصاخب والفن والتطلعات للتناقضات بين الالتزام السياسي والسعي الفني انعكاسا عميق الجوهر الابتكار.. من خلال شاعر تشيكي.
"خلود" رواية بطلة قوية تشرح مفاهيم خالدة، النسيان والذاكرة والوفاة، قصص متناغمة حيث يصور الروائي ببراعة الروابط الدقيقة.
بين الحاضر والمستقبل ويدعونا للتأمل في وجودنا.
وأخيرا، في تحمل ثقل الشدة عظمة أعظم منها في تفريغها وتقاس روايات الكاتب ميلان كانديدا وكل أعماله الأدبية الضخمة بالنزاهة والصدق والقدرة على التأثير بشكل إيجابي على الناس من خلال حكمة لم يركض وراء العظمة انما هرب منها دوما، فرآها دائما تجري وراءه. جميع الابتكارات العظيمة تحتوي على جزء من الأعمال غير المكتملة (لأنها عظيمة).
أستاذة متخصصة في اللغات والأدب الفرنسي من جامعات السوربون في باريس.



